ألزمتني بعض ردود الأفعال على جريمة مقتل المدرس الفرنسي «صمويل باتي»، في 16 أكتوبر الجاري، بمحاولة تناولها من بعدٍ آخر، حيث إن ترسُّخ قناعة «الغيرة على الإسلام» كانت أكثر المداخل توظيفاً من قبل التيارات المُتأسلمة في ممارستها للترهيب الفكري والاجتماعي في دولها، وفي استقطاب الفئات المهمّشة نتيجة فشلها في الانتماء لثقافة هويتها الوطنية المكتسبة (المهاجرين إلى أوروبا والولايات المتحدة)، حيث استطاعت هذه التيارات - نتيجة سطوتها الاجتماعية والاقتصادية في إنتاج هوية موازية للهويات الوطنية في المهجر.
وتعد فتوى الخميني بإهدار دم الكاتب سلمان رشدي، البريطاني من أصول هندية، في 14 فبراير 1989، على خلفية إصدار كتابه (آيات شيطانية)، هي الأولى التي يمارس فيها الإسلام السياسي وصايةً قِيَمِيَّة عابرة للقارات، ولقد لاقت تلك الفتوى إجماعاً غير مسبوق من جميع أقطاب التيارات المتأسلمة ومحازبيها في العالم الإسلامي والمهجر، إلا أن أدوات قياس تأثير فتاوى مثلها، ومدى إسهامها في التأسيس لواقع الهويات الفرعية في المهجر الأوروبي، هو ما كان ينقص مفهوم الاستباق الاجتماعي- السياسي أوروبياً.
ولقد أسهم اختراق تلك التيارات لمنظومات الدولة في العالم العربي والإسلامي، ووجود أنظمة ثيوقراطية طائفية العقيدة السياسية (جمهورية إيران الاسلامية)، في أن تكوُّن ظهيراً معنوياً ومادياً لتلك التيارات في المهجر، واعتبارها جزءاً من الأدوات الناعمة مرحلياً، والغليظة مستقبلاً، فالهجرة العربية والإسلامية إلى العالم القديم (أوروبا) والجديد (الأميركتين) ليست بالطارئة على التاريخ الاجتماعي لكل منهما، إلا أن الهجرة الاقتصادية منذ مطلع الثمانينيات من القرن الماضي أتت بإفرازاتها الخاصة مصحوبة بأخرى مكانية (محلية) بعد نهاية الحرب الباردة بانهيار المعسكر الشرقي، فنواة الكراهية للأقليات تكونت في الشرق الأوروبي نتيجة فشل النموذج السياسي الاجتماعي اقتصادياً، لذلك كان أول ردود الأفعال هو الرغبة في الإقصاء الانتقامي، لكل ما مثلته الأقليات القادمة من دول العالم الثالث، ضمن منظور الكتلة، والذي كان على حساب دولها.
غالبية دول العالم الثالث، فشلت في تطوير مفاهيم متقدمة، أو مواكبة للحداثة الإنسانية، مما أهّل مجتمعاتها للانكفاء على هوياتها الفرعية لا الوطنية، كذلك افترض المهاجرون استدامة حالة التعاطف الإنساني (في الحالة الأوروبية) كاستحقاقاتٍ للحقبة الاستعمارية. وربما كان الخطأ المُركّب الذي أنتج العنف الإسلاموي والعنف اليميني الوطني National Movement المضاد لاحقاً، هو إفراط أوروبا في التسامح مع الثقافات المنغلقة على ذاتها، والمتجاوزة على استحقاقات هويتها الوطنية.
المقالات التي تناولت الجريمة الإرهابية أفردت جزءاً لمساءلة خطاب الرئيس ماكرون، ورفضه إذعان فرنسا لإملاءات التيارات الإسلاموية، وبأن الرسوم ستبقى لأنها تمثل جزءاً من أدوات التعبير عن الرأي التي يضمنها الدستور والثقافة الفرنسية، إلا أن غالبيتها أسقط مقارنة ذلك الموقف بموقف بعض دولنا من تيارات الإسلام الراديكالية والمتطرفة، والذي لا يختلف مع الموقف الفرنسي في القبول بالإذعان لثقافتها، بل إن من الخطأ في حق الإسلام والهوية الإسلامية، ما يجري من ابتسار للدلالات الوطنية في ذلك الخطاب تحديداً.
أما الأمر الآخر، فهو تجاوز بعض تلك الآراء على السيادة الوطنية في شأنٍ فرنسي خالص، فالجريمة وقعت على أرض فرنسا، وفي حق مواطن فرنسي، أما ما يُرفع من شعارات باهتة ومسيئة للإسلام انطلاقاً من الغيرة عليه، فأكتفي بالرد عليهم بالآية الكريمة: «وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هَوْناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما»، صدق الله العظيم.
إن أكبر جرائم إرثنا الاجتماعي في حق الإسلام هو إلغاء العقل النقدي، وقد آن الأوان لنكون أكثر جرأة في التحفيز على تصحيح ذلك، بدل أن نطرح أنفسنا أوصياءً على المنظومات القيمية للآخرين، وإن أردنا الانتماء للحاضر، فلننطلق من نقد الذات أولاً.
*كاتب بحريني